الأحد، 31 مايو 2015

قصة النبي يونس عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

في أرض العراق، قرب الموصل، لاتزال أطلال مدينة قديمة تدعى (نينوى)، شامخة حتى هذه الايام، على الرغم من سحق الزمن وطول العهد، شاهدة على تاريخ أهلها العريق، وشهرتهم الغابرة، وفي هاتيك الربوع، بعث (يونس بن متى) أو ذو النون أي صاحب الحوت، ليدعوا الناس الى عبادة الله الواحد القهار الذي له ما في السموات والارض وما بينهما وما تحت الثرى، والذي بدأ خلق الانسان من طين، فتبارك الله احسن الخالقين.

وظهر (يونس) عليه السلام، بين ظهراني قوم يعبدون الأصنام ويتخذونها أرباباً من دون الله، يلتمسون هدايتها ويبتغون مشورتها، وينشدون مساعدتها، لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها وأسماع لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.

ولو أن إنساناً توجه بحديثه إلى انسان اخر، وأخذ يكلمه دون أن يحير جواباً، فأعاد عليه الحديث دون أن يجد لديه صدىً، فكرر ندائه له، فلم يلق أذناً صاغية، فبعد كل هذه المحاولات سنجده برماً بهذا الذي وجه الحديث اليه، ضجراً منه، وإذا لم يصب عليه جام غضبه، فإنه في أحسن احواله، سيعقد العزم على مقاطعته والبعد عن طريقه، لأنه دفعه الى النفور منه وألجأه إلى جفائه وهجرانه، غير آسف على فراقه، ولا حزين،
فما بال هؤلاء الكافرين يعكفون على اصنام من خشب أو أحجار، يعبدونها من دون عالِم الاسرار، الذي سجد له سواد الليل وضوء النهار؟
ألم يروا أنهم يكلمونهم فلا يجيبون، وينادونهم فلا يسمعون، ويسقطون فلا يتألمون، وينقلون من مكان الى مكان فلا يمانعون ولا يعترضون، إنهم لعمري لهم الظالمون! ويا أيها الجاحد لربك الذي خلقك فسواك فعدلك انظر كيف ركبك، خلقك من ماء مهين، ثم جعلك في أحسن تقويم ومنحك السمع والبصر والفؤاد واللسان، وجمّلك بالصحة والعافية، وهداك سبيل الرشاد وأكثر نعماءه عليك حتى لا تعد ولا تحصى، فعرف قدرة الثقلان  من الانس والجان، أفبعد ذلك تتمرد وتجحد وتنكر أنه الأوحد، وتأبى الخضوع إليه والاتكال عليه؟ فتباً لك ما أحراك! أن يخلدك الدرك الأسفل من النار، التي جعلها مثوى الكافرين والفجار.


-دعوة سيدنا يونس عليه السلام قومه الى توحيد الله والايمان به-

ولما جاء (يونس) عليه السلام إلى قومه، ورآهم عاكفين على الأصنام يعبدونها، أخبرهم أنها لا تجلب لهم نفعاً، ولاتقيهم ضراً، وأنها عاجرة عن حماية ذواتها والدفاع عن أنفسها، ومن لم يستطع دفع الأذى عن نفسه فكيف ينجد الاخرين؟!.
ودعاهم إلى النظر فيما حولهم، والتفكر في مخلوقات الله الكبيرة والصغيرة، وما بين ذلك ليتعرفوا على عظيم قدرته، وبديع صنعته، فكلها تخضغ لنظام ثابت قويم لا خلل فيه ولا اعوجاج، وضعه الحكيم العليم.

انظروا إلى السماء وما فيها من الكواكب والنجوم والمجرات، تسبح بطريقة تحير الالباب،و تخلب العقول، دون أن يصطدم بعضها ببعض، أو يحتل بعضها مكان بعض، ليس لها عقل يسيرها، غير ان لها إلـهاً يحركها ويدبرها.
وهذه الطيور تطير في الفضاء، من غير كلل أو إعياء، يمسكها اللطيف الخبير، بفضل أحكم تدبير.
وفوق الأرض مخلوقات قسمها الى أصناف وفئات، من انسان وحيوان ونبات، وحدد لكل منها نظام حياة هو في الحقيقة جدّ بديع، وضعه البصير السميع.
وتلك المزروعات المختلفات، في جناتٍ معروشات وغير معروشات، تسقى بماء واحد هو أساس الحياة، فيخرج ثماراً متباينات، في اللون والريح واللذات، يفضل بعضها على بعض في المذاق، من الذي أبدعها وأوجدها غير المبدع الخلاق؟.
يا قوم، الا تستروا وجوهكم بغلالة، ولا تدعوا عقولكم في جهالة، أرأيتم إلى هذا الريح وهي تجوب الكون الفسيح، كم تؤدي للإنسان والحيوان والنبات، من حاجات وخدمات!
 كل هذه الاشياء، خلقها فاطر الأرض والسماء، وسخرها لخدمة الانسان، الذي فضله على خلقه وعلمه البيان، ليشكر الخالق على نعمائه، ويندفع للتفكير في آلائه.
يا قوم إني لأراكم جانبتم الصواب، إذ عبدتم الحجارة دون رب الأرباب، وأثبتم أن عقولكم في غياب، فلتنتهوا عما وقعتم فيه، من الضلال والتيه، وعودوا الى ربكم واسجيبوا، وإليه توبوا وأنيبوا، قبل أن يأتيكم هادم اللذات ومفرق الجماعات.
وقال (يونس) عليه السلام لقومه: لقد بعثني الله اليكم رسولا لأخرجكم
من الظلمات الى النور، وأبين لكم مسالك الهلاك والثبور، واحذركم عاقبة الآثام والشرور، لتعيشوا في رحاب الخيرات، وتجتنبوا سبل المهلكات، فإن آمنتم بالله أفلحتم، وإن أبيتم خبتم وخسرتم.
وأجابه قومه : (يا يونس)، أي كلام أسمعتنا، وابرمتنا به وأضجرتنا؟ إن هذه الآلهة التي نعبدها ونتقرب اليها، إنما هي ميراث آبائنا وأجدادنا، فكيف تريدنا أن نتنكر لها وننبذها، وقد كانوا عليها عاكفين، منذ من مئات السنين؟ إنك واحد منا، تعيش بيننا منذ زمن بعيد، وما عهدناك إلا عاقلاً فما الذي حدث لعقلك، حتى طلعت علينا بهذه الترهات والمظالم، ورحت تسفه آرائنا وأنت لنا ظالم، فكفّ عن أقوالك، ودعنا من أفكارك، لأنك لو إستمررت لنبذناك، وبما لا تشتهي بادرناك، ولن نأسف إذا خسرناك.
فرد (يونس) عليه السلام: ياقوم أنتم بنو جلدتي وفيكم أهلي وعشيرتي، وإني لأخشى أن يعمكم الله بعذابه، وينزل بكم شديد عقابه، لكنه غفور رحيم، لمن جاء بقلب سليم، تائباً منيباً، سامعاً مجيباً
قال تعالى (( ويعبدونَ مِن دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض سبحانه وتعالى عمُّا يشركون )) .

جواب قوم يونس وإصرارهم على كفرهم وضلالهم

وقال قوم يونس له: لقد أكثرت علينا القول، وإنّا لن نضيّع وقتنا بسماع مزاعمك وأراجيفك، ومهما تحاول فإنا لن نقتنع بأفوالك، ولن نستجيب لدعوتك، فقد مللنا من تهديداتك، وضجرنا من وعيدك، فإن كنت صادقاًفيها، فإنا لما وعدتنا به مترقبون.

ولما يئس (يونس) عليه السلام من إصلاح فسادهم، وضاق ذرعاً بكفرهم وعنادهم، ولم يعد يصبر على عصيانهم، فقد الأمل في ردهم الى صوابهم، وإنقطع رجاؤه في إمكانية تقويمهم، فآثر هجرهم ، والرجيل عن مدينتهم، وشد رحاله الى جهة غير محددة.
وظنوا أنهم تخلصوا من أفكاره، وأرتاحوا من حواره، إلا أن كفرهم لن يمر بدون حساب، وعلى عنادهم قد أزف الجواب.


بحث قوم سيدنا يونس عليه السلام عنه ورجوعهم الى الإيمان بالله

وفجأة، تلبدت السماء بالغيوم الداكنة، وامتلأ الجو بالغبار، وشاهت وجوه القوم، وأدركوا أن العذاب مالهم منه منعتق، فقد عصو رسول الله فيما دعاهم اليه، وإنطلقوا يبحثون عنه في أرجاء المدينة، ولكن بحثهم ذهب بدون جدوى، وأيقنوا أن سيقعون في شر بلوى.
ولما إستيأسوا من العثور عليه، أجمعوا على التوجه الى رب (يونس) عليه السلام بالمتاب، فهو الغفور التواب، وارتفعت أصوات الرجال بالدعاء، وإشتد عويل الأطفال والنساء وكلهم يصرخ ويستغيث، بصدق وإخلاص لا يخفى على الرحمن الرحيم، ولما كثر دعاؤهم، وطال رجاؤهم وبكاؤهم، جاءهم عفو العزيز الغفّار، واضحاً كالشمس في رابعة النهار، قال تعالى:
(( فلولا كانت قريةٌ آمنت فنفعها ايمانها إلا قومَ يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم الى حين )).
وعلم قوم يونس عليه السلام أنه كان على حق في دعوته، وتابعوا البحث عنه حتى يشاركهم فرحهم بإيمانهم، وسعادتهم فيما سينالهم من خيري الدنيا والاخرة، لكن جهودهم ضاعت سدى، وشعروا بالأسف الشديد لفراقه، واخفافهم بنصحه لهم وإرشاده.
وحل بهم أعظم الندم، وأصابهم الحزن والألم، ولكن أسفهم وندمهم لم يغير من حال شيئاً، فلا أحد يعلم بما فعل، وإلى اين إتجه ووصل.
وقرروا اللجوء الى رب العباد، يتضرعون إليه بصدق وإخلاص حتى يرد (يونس) عليه السلام اليهم سالماً، لأنهم بحاجة الى مواعظه ونصائحه، بعد أن آمنوا بمن بعثه اليهم بنور هدايته، وبصّرهم بفضله وشرف مكانته، ولم ييأسوا من كرم الله ورحمته.
لقد فارق (يونس) عليه السلام ديار اهله، وأخذ يمشي ويمشي حتى قادته قدماه الى شاطئ البحر، وهناك رأى سفينة، وأناساً يستعدون لأستقلالها، والصعود إليها وإقترب (يونس) من ربانها وسأله الموافقة على أن يرجل معهم حيث يقصدونه، فوافق الربان لما رأى من ملامج التقى والمهابة والصلاح.
كانت السماء صافية، والريح رخاء، وتحركت السفينة، وراحت تتهادى فوق مياه البحر كأنها العروس ليلة الزفاف، تشق طريقها في لين ويسر،
ولكن البحر ليس مأمون الجانب، وإن له لغدرات لا يحترس منها، وبدأت السماء تتعكر، وهبت ريح عاصف، حتى إذا مضى بعض الوقت، ثار البحر وهاج، وتقاذفت السفينة الأمواج، وخشي ربانها عليها من الغرق، فتوجه الى ركابه، وأعلمهم ان تخفيف الحمولة أدعى لنجاة السفينة، وأضمن لسلامتها، ولا يتحقق ذلك المرام إلا بإلقاء بعض المتاع والركاب إلى الماء.
وفزع القوم من هذا النبأ، وساد القلق نفوس الملأ، ولكن بدا لهم أن الامر لا محيد عنه، وتنفيذ إقتراح الربان لا مفر منه، وعزموا على إجراء القرعة لمعرفة الضحية الأولى، وكم كانت دهشتهم عظيمة حي اجيلت السهام، وظهر سهم (يونس) عليه السلام، وأجمعوا على إعادة الكرّة، تقديراً له وإحتراماً، وإزدادت دهشتهم لما ظهر سهم (يونس) عليه السلام للمرة الثانية.
وإتفقوا جميعاً على إعادة القرعة للمرة الثالثة، لأنهم أحبوا صحبة (يونس) عليه السلام، ولا يريدون أن يفارقوه، وأجالوا السهام، فظهر سهم (يونس) وتوقف القوم، وأصابهم الذهول، إلا (يونس) لم يدهشه الأمر، لأنه علم ان ما جرى له ما كان ليصيبه إلا لأمر قد قضاه الله تعلى  عليه، وأيقن ان مشيئه الله لا مفر من تنفيذها، وراح (يونس) عليه السلام يودع ركاب السفينه، وهم لفراقه كارهون، ثم رم بنفسه إلى الماء، فإحتضنته الأمواج، وأخذت ترفعه وتخفضه،وتظهره وتخفيه، دون أن يدري ما سيؤول اليه حاله، وما سيكون مصيره ومآله، وظل في هذا الوضع الرجراج، ليس بمغرق ولا بناجِ، حتى أرسل الله اليه حوتا كبيراً، كان مأموراً بابتلاع سيدنا يونس عليه السلام، إلا يسوءه في خدش لحم أو كسر عظم، وأن يبقى وديعة في بطنه حتى يأذن الله ليونس بالخروج، قال تعالى : ( وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا انت سبحانك اني كنت من الظالمين، فإستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين). الانبياء  87 - 88
خروج سيدنا يونس عليه السلام من بطن الحوت
وطل سيدنا (يونس) عليه السلام، وهو في بطن الحوت يستغفر ربه ويسترحمه، حتى استجاب له ربه، ورحم ضراعته، ومنّ عليه بمغفرته، قال تعالى : (وإن يونس لمن المرسلين، إذ أبق الى الفلك المشحون، فساهَمَ فكان من المدحضين، فألتقمه الحوت وهو مليم، فلولا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه الى يوم يبعثون، فنبذناه بالعراء وهو سقيم، وانبتنا عليه شجرة من يقطين، وأرسلناه الى مائة ألفٍ أو يزيدون، فآمنوا فمتعناهم الى حين). الصافات 139
وتلقى الحوت امر ربه أن يلفظ الى الشاطئ رسوله (يونس) عليه السلام، وصدع الحوت بإمر ربه، وعاد (يونس) إلى الحياة هزيلاً سقيماً بعد أن مكث في بطن الحوت بضعو ايام، ووجد نفسه بالعراء، في مكان قفر لا أنيس فيه ولا جليس، ولا طعام ولا شراب، فأنبت الله عليه شجرة من القرع، اظلته بأوراقها وأطعمته من ثمارها، ولما إسترد عافيته، وقوي جسمه، أرسله الله تعالى الى أهل (نينوى) فآمنوا به وصدقوه، قال ابن عباس رضي لله عنهما: إن إرسال يونس عليه السلام ونبوته كانت بعد نبذ الحوت له.
وتروي بعض كتب التفسير أن قبر (يونس) عليه السلام موجود في قرية (حلحول) قرب مدينة الخليل في فلسطين، ويقع على مقربة منه قبر آخر يقال إنه قبر والده (متّى).
ويزعم أهل الكتاب أن ليونس عليه السلام كتاباً يقع في أربعة إصحاحات (فصول) والله أعلم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة لـ مدونة فهيم™ 2015

Powered By www.download-apk.com